أستاذة في "الجامعة اللبنانيّة"، قسم "اللغة العربيّة وآدابها"، صحافيّة وكاتبة في جريدة "الشّرق الأوسط"
وصلت شعبية المستشارة الألمانية السمحة إلى ذروة لا يحلم بها زعيم في دولة ديمقراطية، بعد أشهر من تصديها الناجح، لجائحة «كورونا». تكاد المرأة تحصد الثمانين في المائة من محبة شعبها وثقته. نتيجة لا يحلم بها أي من جيرانها الذين تنهال عليهم الملامات بالأطنان، بعد أن حصد الوباء عشرات الآلاف من الضحايا. وحدها ميركل بدت في أوروبا متماسكة، صلبة، متأنية، تعرف ما تريد.
لله درّك يا أنجيلا! |
الدكتورة ميركل، هكذا ينادونها، في بلد يتفوق فيه اللقب العلمي كل الألقاب الأخرى، ويعطي للبحث مكانة تتوجه على الشعر والأدب والاستعارات الساحرة. رياضية من الصنف الرفيع، فيزيائية لها أبحاثها الجليلة قبل أن تدخل السياسة، قاربت الوباء من زاوية الحسابات الدقيقة. منذ شهر يناير (كانون الثاني) وهي ترقب التحولات. أطلقت عجلة الصناعات الطبية بسرعة، حركت الروح الجماعية بدون هلع، لتتفادى في وقت قياسي، النقص في المعدات الذي عانت بلادها منه كما كل أوروبا. بدت الفيدرالية في ألمانيا نعمة وديناميكية منقطعة النظير، وتبينت في أميركا نقمة قاتلة. تحاورت مع الجميع، رصّت الصفوف ومشت.
لا تتكئ ميركل على فراغ، فقد أولت النظام الصحي في الأساس جلّ عنايتها. لم تتوقف لحظة منذ 14 عاماً، عن اعتبار الإنسان محور جهدها الأول.
«أنا ضد الحروب وضد التهديدات أيضاً»، تقول دائماً «حتى مع من نختلف معهم نخبرهم رأينا، ونتحدث معهم حول قيمنا». بقدر ما نجحت في رفع الصادرات، وجني الأرباح وعقد الاتفاقات التجارية، تمكنت منذ كانت وزيرة للمرأة والشباب ومن ثم للبيئة، الرفع من شأن إنسانية المواطن. لها يرجع الفضل في تحويل الطاقة من نووية إلى الاعتماد على الرياح والشمس والماء. دعمت دائماً الفائض في عدد المستشفيات، وزيادة الطاقم الطبي، على الشح والتقشف. لم ترصد أكثر مما فعل الآخرون، لكنها أحسنت الإدارة بأقل قدر من الموظفين، وأكبر عدد من أصحاب المعاطف البيضاء.
تحكم ماما ميركل بعطف وحزم معاً. هذه المرأة التي لم تنجب تمكنت من أن تتبنى الملايين، حين منحت المساعدات للمفلسين من الأوروبيين فارضة عليهم تقشفاً اعتبر إذلالاً وعجرفة، ورأته حباً وإنقاذاً، وهي تخرجهم بمهارة من محنة اليورو التي كادت تودي بالاتحاد كله.
ميركل تواصل رحلتها الشاقة، وهي تعرف أن نهاية حكمها الأطول في دولة ديمقراطية يشارف على نهايته. هي ليست عاشقة سلطة، بل قائدة مهمات، وبانية وطن يستحق فخر أبنائه. المرأة التي خبرت الشيوعية عندما نشأت في أوروبا الشرقية، وعرفت الديكتاتورية، وعانت تمزق الأرض، وعاشت معاناة هدم جدران الفرقة، وألم الحروب والانكسارات، لا تريد لأبنائها أن يعانوا تجربتها. تلك الدروس لا يعبأ بها كثيرون، يرون في الكراسي غنيمة، والسلطة فرصة لجني المكاسب التافهة الزائلة.
باتت مشتهى الأوروبيين والأميركيين ماما ميركل، وربما العالم أجمع؛ لأنها حكمت بحس امرأة، وحكمة باحثة، وأصغت إلى العلماء بتواضع الأكاديمية التي لم تغادر مختبرها الصغير. وهي حين تشرح لمواطنيها تخاطبهم كواحدة منهم، تدرك أن عليها أن تحلّ مشكلة أصغر مزارع في أبعد قرية عن برلين، لتجعل الجميع متساوين في الوطن.
هي اليوم، زعيمة أوروبا بدون منازع. لا تزال حربها مع «كورونا» في بدايتها، والمشوار مديد وشائك، لكنها أعدت العدة، ورسمت استراتيجيتها، مع معهد «روبرت كوخ» للأمراض المعدية، فخر الصناعة الألمانية.
الفيروس المجهول من سماته الغدر، تعرف ذلك. وهي فعلت المستحيل كي تبقيه تحت السيطرة، وكي تتيح لمواطنيها الخروج من منازلهم تدريجياً، تحت رقابة الاختبارات، ووقاية الكمامات، وحفظ التباعد الاجتماعي. ووعد الحصول على لقاح من مختبراتهم الموثوقة.
يكفي أن تقول الدكتورة كلمتها، ليصغي إليها الألماني، فبعد 14 سنة من الانتصارات، صار للسيدة رصيد يسمح بتسليمها زمام الأرواح.
رأى كبار زعماء العالم أن الفيروس «عدو»، والمواجهة «حرباً». تواطأوا على المفهوم نفسه، استدعوا الجيوش، استنفروا الجنود، وأصدروا القرارات الصارمة، بينما لفت الرئيس الألماني شعبه إلى أن «الجائحة هي اختبار لإنسانيتنا». ولم تحتج ميركل لمنع التجول إلى القوة، كان يكفي أن تطلب من الناس مساعدتها، والحد من الحركة، كي يصغوا بعناية ويمتثلوا.
إنها امرأة محترمة جداً، وذاك سرها. ومن قال إن السياسة يجب أن تكون «ميكافيلية» وانتهازية نفعية، تطل عليه الدكتورة ميركل بوجهها الطفولي الباسم، ولطفها الذي لا يقاوم، لتخبره أنها سليلة هيغل وتلميذته النجيبة في صون الأسرة وتحصين الدولة، وأن لا صوت في السياسة الحكيمة، يعلو على صوت «الأخلاق».
لله درّك يا أنجيلا، لقد أعدت البسمة إلى قلوبنا...
No comments:
Post a Comment
برجاء اكتب تعليقك هنا