تقف الولايات المتحدة على أعتاب فقدان مكانتها كقوة عالمية عظمى. والأسوأ من ذلك، أنها ربما تكون في طريقها نحو التفكك كأمة مع سعي أكبر ولاياتها من حيث عدد السكان، كاليفورنيا، نحو الانفصال، بينما ترمي الأقلية الأميركية من أصول أفريقية لتأسيس دولة مستقلة لهم، ربما في مسيسيبي. الأمر المؤكد أنه بحلول عام 2025 لن تكون الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأولى عالمياً.
تلك هي الصورة الكبيرة التي رسمتها صحيفة «كيهان» التي من المعتقد أنها تعكس آراء وخيالات «المرشد الأعلى» آية الله علي خامنئي، للوضع الحالي داخل «الشيطان الأكبر»، الولايات المتحدة.
صحافيّ وكاتب ايرانيّ مثقّف لديه اهتمامات واسعة بشؤون الشّرق الاوسط والسّياسات الدّوليّة
ولا يملك المرء سوى التساؤل عن المصدر الذي تستقي منه «كيهان» ما تصفه بأنه «معلومات موثوقة» بخصوص «الشيطان الأكبر».
ومن بين العناوين التي خرجت بها الصحيفة «ريتشارد هاس: (كورونا) عجّل بالسقوط الأميركي!» وربما يتساءل المواطن الإيراني من هو هاس. من ناحيتها، قدمته «كيهان» باعتباره رئيس مجلس العلاقات الدولية.
وخرج عنوان آخر يصرخ «إغلاق اقتصادي كامل في أميركا!» وادعى عنوان ثالث أن «جميع الولايات الأميركية الـ50 في قبضة كارثة وطنية!»
وزعم عنوان آخر أن «أميركا في نعشها»، بينما معجبوها لا يزالون يسعون لجذب أنظارها.
ولدعم هذه العناوين، نقلت الصحيفة آراء عدد ممن سمتهم «خبراء أميركيين بارزين» بينهم نعوم تشومسكي، وفريد زكريا، وباربرا سلافين، ولويس فارخان، وبيرني ساندرز، وإيمانويل ويليرستين. أما المواطن الإيراني الذي قد يتساءل عن هوية هؤلاء، فلا تقدم الصحيفة أي إجابات.
في الواقع هذا الولع بأميركا شكل ملمحاً أساسياً في العقلية الخمينية التي هيمنت على المشهد السياسي الإيراني منذ عام 1979. وعندما كنت أعمل على سيرة ذاتية لآية الله الخميني في الثمانينات، اندهشت برؤيتي أن أكثر من 60 في المائة من خطاباته تضمنت على الأقل إشارة مسيئة واحدة إلى أميركا. ورغم أنني لم أجرِ دراسة مشابهة على خامنئي، خليفة الخميني، لكن لدي انطباعاً بأن الحط من قدر أميركا يمثل ملمحاً أساسياً من جميع خطاباته، على الأقل على مدار السنوات الأربع أو الخمس الماضية.
الحقيقة، أن كراهية أميركا ليست بالظاهرة الجديدة، وإنما تكاد تكون قد ولدت بولادة الولايات المتحدة.
حتى في القرن الـ19، نظر بعض المفكرين الأوروبيين، خاصة في بريطانيا وفرنسا، إلى الولايات المتحدة باعتبارها تشكل تحدياً للنظام العالمي الذي افترضوا أنه طبيعي، وخلصوا إلى أن القوة الجديدة لن تكون سوى لحظة عابرة في التاريخ.
ويتضمن أدب الكتابات المعادية للولايات المتحدة بالإنجليزية والفرنسية شتى أنواع الأفكار الغريبة، منها الادعاء بأن الناس والحيوانات تنمو بأحجام أصغر في «العالم الجديد» وأن النظام الأميركي للحكم ليس سوى «فوضى مقننة»، وبالتالي فإنه حتماً سيكون قصير الأجل.
الملاحظ أن الطابع الحديث للغاية لأميركا كفكرة كان، وإلى حد ما لا يزال، تهديداً لمختلف أنماط الفكر الرجعي من جوزيف دي مايستر وصولاً إلى معشوق خامنئي، نعوم تشومسكي.
وباستثناء هذا العام، استضافت إيران منذ عام 1989 مؤتمراً سنوياً بعنوان «نهاية أميركا» تحضره شخصيات معادية للولايات المتحدة من مختلف أرجاء العالم.
ومع أن هذه «النهاية» المزعومة لم تتحقق قط عاماً تلو آخر، ظل الولع بأميركا كما هو بلا تغيير، ومثلما نرى الآن في «كيهان» فإن الأمر بدأ يخرج عن السيطرة. ويعود ذلك إلى أنه عندما يكتسب خطاب ما درجة من الاتساق الداخلي، فإنه قد يستمر معتمداً على نفسه إلى الأبد.
وعلى مدار عقود من العمل الصحافي، رأينا الكثيرين ممن توقعوا «نهاية أميركا»، بل وبعضهم بنى مسيرة مهنية كاملة له بالاعتماد على هذا التوقع. داخل الاتحاد السوفياتي، اعتاد إيغور بانارين، أحد مفكري المكتب السياسي، كتابة دراسة كل عام عن «نهاية أميركا». كما حدد نيكيتا خروشوف، زعيم الكرملين صاحب الشخصية المتقلبة بعد غريغوري مالينكوف، عام 2000 باعتباره نهاية أميركا، ووعد بأنه: «سندفنكم!».
عام 1971، أخبرنا ياو وين يوان، عمدة شنغهاي و«العقل المدبر» في «عصابة الأربعة»، خلال مقابلة صحافية، أن «النمر الورقي» الأميركي لن يشهد القرن المقبل. وبنبرة ألطف، توقع العالِم المعني بالدراسات المستقبلية لدى «مؤسسة ران»، هرمان كان، أنه بحلول عام 2000 ستفقد الولايات المتحدة قيادتها العالمية لصالح فرنسا!
ومع ذلك، فإن حلم «نهاية أميركا» لم يتحقق، وربما لن يتحقق أبداً، لسببين على الأقل.
أولاً: أن أميركا ليست مجرد دولة تملك أدوات القوة العظمى. كما أنها ليست إمبراطورية كلاسيكية على غرار الإمبراطوريات الفارسية والرومانية القديمة، أو الإمبراطوريات الأحدث مثل الإمبراطورية القيصرية أو البريطانية. في الواقع ربما تكون أميركا قبل أي شيء آخر، فكرة حتى وإن جرت صياغتها على نحو أقرب للخرافة مثلما الحال مع غالبية الأفكار العظيمة، ولا تزال تجتذب قطاعاً واسعاً من البشرية عبر مختلف الحدود الثقافية والعرقية والاجتماعية والاقتصادية. فقط أشباه الآيديولوجيين أمثال تشومسكي يتحدثون عن «الإمبريالية الأميركية» التي لم تحدث مطلقاً، في الواقع لم تكن أميركا قط إمبراطورية بالمعنى الذي قصده لينين وغيره.
أما السبب الآخر، فلا يخلو من مفارقة، ذلك أن الولع المعادي لأميركا يمنحها مركزاً محورياً في جميع الخطابات السياسية، مركزاً ربما هي ذاتها لا تستحقه.
قد لا يدرك خامنئي و«كيهان» هذا الأمر، لكن إطالة أمد خرافة أن أميركا تشكل السبب الجذري وراء مشكلات وإخفاقات الجمهورية الإسلامية، يعلّي قدر الولايات المتحدة إلى مرتبة الساحر الذي يملك في يديه مفاتيح النعيم. ولذلك؛ نجح استغلاليون أمثال الرئيس حسن روحاني، من بناء مسيرات سياسية بإطلاقهم وعوداً بإبرام «اتفاقات» مع الولايات المتحدة تحل مشكلات إيران في لمح البصر. وعندما يقول الملالي إن ثورتهم ستنجح فقط إذا لم تعارضها أميركا، فإنهم بذلك يحولون أنفسهم إلى مجرد أشياء يجري التحكم بها.
وبدلاً من إغراق الإيرانيين بسيل من الخطابات المعادية لأميركا، ربما من الأفضل لخامنئي وأعوانه تخصيص يوم كل شهر بعنوان يوم «بلا أميركا»، بحيث لا تنطق خلال ذلك اليوم كلمة «أميركا»، شفاهة أو كتابة بجميع أرجاء إيران.
بدلاً من ذلك، يكرس الإيرانيون طاقاتهم الفكرية خلال ذلك اليوم إلى التفكير في تساؤل: بدلاً من مزيد من الحفر، هل ثمة شيء آخر بمقدوره معاونتهم على الخروج من الحفرة التي حفروها لأنفسهم؟
واليوم، لم تثمر 41 عاماً من خرافة «نهاية أميركا» شيئاً مفيداً للإيرانيين، ربما يصبحون أفضل حالاً مع إقرار يوم «من دون أميركا».
from الشرق الأوسط
https://ift.tt/2Vd00R3
No comments:
Post a Comment
برجاء اكتب تعليقك هنا